حقيقة الملك قسطنطين فى التاريخ المسيحى - ما له و ما عليه

كان أغلب القادة الكنسيين معجبين بشخصية الإمبراطور قسطنطين الكبير (حوالي 272-337 م.) وأمه هيلانة الملكة، يتطلعون إليهما كشخصين بارين قاما بدورٍ عظيم في تاريخ الكنيسة الأولى.

مع أنه لم ينل العماد إلا في السنة الأخيرة من حياته على يدي الأسقف الأريوسي يوسابيوس النيقوميدي إلا أنه يتحدث عن نفسه كمسيحي غيور - مع تحفظنا على هذا الادعاء – الا انه هو الذي دعا إلى عقد أول مجمع مسكوني في العالم في نيقية عام 325 م...........

عشقه يوسابيوس القيصري، وسجّل لنا تاريخه، كما مدحه المدافع لاكتانتيوس، وقال عنه هوسيوس أسقف كوردونا Hosius of Cordon بأسبانيا أنه صنع عجائب في الكنيسة.

ورغم كل ما هو معروفٌ عنه، فما عليه أكثر مما له و سنذكر بعضا من هذا في هذا المقال.

نشأته:

اسم أبيه قسطنطيوس الأول Chlorus Constantius I وأمه هيلانه، وكان أبوه ملكًا على بيزنطة ومكسيميانوس ملكًا على رومه ودقلديانوس على إنطاكية ومصر. وكان قونسطا وثنيًا، إلا أنه كان صالحًا محبًا للخير رحومًا شفوقًا. واتفق أنه مضى إلى الرُها وهناك رأى هيلانة وأعجب بها فتزوجها، وكانت مسيحية فحملت منه بقسطنطين هذا. ثم تركها في الرُها وعاد إلى بيزنطية، فولدت قسطنطين وربّته تربية حسنة وأدّبته بكل أدب، وكانت تبث في قلبه الرحمة والشفقة على المسيحيين. ولكنها لم تجسر أن تعمّده ولا تُعلِمَه أنها مسيحية، فكبر وأصبح فارسًا وذهب إلى أبيه الذي فرح به لما رأى فيه الحكمة والمعرفة والفروسية. صار شريكًا في والده في الإمبراطورية.

 قسطنطيوس والده:

لم يكن ممكنًا ليوسابيوس أن يؤرخ لقسطنطين الكبير Constantine the Great دون الإشارة إلى والده قسطنطيوس. فقد كان أحد أربعة أباطرة يشتركون معًا في إدارة الإمبراطورية الرومانية في وقتٍ واحدٍ، وهم دقلديانوس ومكسيميانوس وجاليريوس (غالريوس) وقسطنطيوس. أبى الأخير أن يقتدي بالثلاثة الآخرين خاصة في اضطهاد المسيحيين، مع أنه لم يكن مسيحيًا.

شخصية قسطنطين الشاب:

في شبابه رافق قسطنطين دقلديانوس وغالريوس في بعض الرحلات والحملات. اتسم عن أقرانه بقوة الشخصية وبرز في مواهبه العقلية، كما في قوته البدنية، محبًا للعلم، وكان ذا ذكاء خارق وحكمة إلهية. حاول دقلديانوس التخلص منه بدافع الحسد والخوف منه، فاتهمه باتهامات أخلاقية، لكنه هرب منه وذهب إلى أبيه.

كان والده مشرفًا على الموت عندما وجد قسطنطين قد جاء إليه على غير موعد، فقفز وعانقه بحرارة، وتنازل له عن المُلك ثم أسلم الروح.

 اتساع مملكته:

يحدثنا يوسابيوس القيصري عن انتصاراته الفائقة التي بلغت أقاصي المسكونة في ذلك الحين، فبلغ في الغرب بريطانيا وما حولها، وفي الشمال غلب مملكة السكيثيين مع أنها كانت قبائل متوحشة لا يمكن حصر تعدادها، وفي الجنوب بلغ إلى الأثيوبيين والبليميين Blemmyans، وفي الشرق بلغ إلى الهند وما حولها. وقد رحّب الكل به باغتباط، مقدمين له هدايا، طالبين صداقته، وأقاموا تماثيل وصورًا له في بلادهم.

مؤامرة ليسينيوس ضده:

قدّم قسطنطين الدليل على إخلاصه ومحبته لليسينيوس فأزوجه أخته، وجعله أحد أعضاء الأسرة الإمبراطورية. لكن ليسينيوس دبّر مكائد خفية، وفي كل مرة كان قسطنطين يكتشف المؤامرات ويعفو عنه. وأخيرًا أعلن ليسينوس الحرب علانية ضد قسطنطين بل وضد الله الذي يعبده قسطنطين. فمنع اجتماع الأساقفة معًا تحت أي ظروف؛ وطلب أن تقوم الاجتماعات في الهواء الطلق بدلًا من بيوت الصلاة. انغمس في الشهوات حاسبًا الزنا أمرًا طبيعيًا، وأخيرًا أظهر عداوة ضد الكنيسة وطالب بتقديم ذبائح وثنية، واخترع ألوانًا جديدة من العذابات للمسيحيين.

انتصر عليه قسطنطين وهرب ليسينيوس في زيّ عبد. عاد ليستخدم السحر والاتكال على الآلهة الكاذبة.

سمح الله ل ليسينيوس بتأديبات قاسية حتى كادت ملامح وجهه أن تتلاشى، ولم يبقَ فيه إلا العظام الجافة، صار أشبه بهيكلٍ عظميٍ. أخيرًا أدرك خطأه وقدّم توبة، وأعلن أن إله المسيحيين هو وحده الإله الحقيقي.

تجديد بناء بيزنطية و موته:

قد جدّد بناء بيزنطية ودعاها باسمه القسطنطينية وجلب إليها أجساد كثيرين من الرسل والقديسين، وتنيّح بنيوقوميديا، فوضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى القسطنطينية، فتلقّاه البطريرك والكهنة بالصلوات والقراءات والتراتيل الروحانية، ووضعوه في هيكل الرسل القديسين. وكانت مدة حياته خمسًا وستين سنة.

تكريمه بعد موته:

يرى المؤرخ يوسابيوس أنه لم يوجد ملك قط نال كرامة في أيام ملكه وحتى بعد موته مثل قسطنطين، فإذ أكرم الله أكرمَه الله، فبقي في سلطانه الملكي حتى بعد موته.

بعد موته "ضُربت عملة تحمل التصميم التالي: ظهرت على أحد الوجهين صورته ورأسه مُغطى بحجاب، أما الوجه الآخر فقد صوّره جالسًا على مركبة تجرّها أربعة جياد، وقد امتدّت يد من أعلى إلى أسفل لكي تقبله في السماء" (ك 4: 73).

وربما كانت صداقته ليوسابيوس القيصري هذه ومجاملاته له في حياته سببًا في إضفاء درجة سامية لهذا الملك أكثر مما استحق بالفعل.

أمورا تحسب لقسطنطين :

  • ظهور الصليب المقدس:

بعد وفاة أبيه تَسَّلم المملكة و انتهج نهج ابيه عدم اضطهاد المسيحين و سعى الى الهدوء الداخلى للدولة ومنع المظالم، فخضع الكل له وأحبّوه، ووصل عدله إلى سائر البلاد، فأرسل إليه أكابر روما طالبين أن ينقذهم من ظلم مكسيميانوس فزحف بجنده إلى إنقاذهم. وفى أثناء الحرب رأى في السماء في نصف النهار صليبًا مكوّنًا من كواكب مكتوبًا عليه باليونانية الذي تفسيره "بهذا تغلب"، وكان ضياؤه يشع أكثر من نور الشمس، فأراه لوزرائه وكبراء مملكته فقرأوا ما هو مكتوب ولم يًدركوا السبب الموجب لظهوره.

وفى تلك الليلة ظهر له ملاك الرب في رؤيا وقال له: "اعمل مثال العلامة التي رأيتها وبها تغلب أعداءك". ففي الصباح جهّز علمًا كبيرًا ورسم عليه علامة الصليب، كما رسمها أيضًا على جميع الأسلحة، واشتبك مع مكسيميانوس في حرب دارت رحاها على الأخير الذي ارتد هاربًا، وعند عبوره جسر نهر التيبر سقط به فهلك هو وأغلب جنوده. ودخل قسطنطين رومه فاستقبله أهلها بالفرح والتهليل، وكان شعراؤها يمدحون الصليب وينعتونه بمخلِّص مدينتهم ثم عيّدوا للصليب سبعة أيام، وأصبح قسطنطين ملكًا على الشرق والغرب.

  • اكتشاف الصليب المقدس:

أصدر أمرًا إلى سائر أنحاء المملكة بإطلاق المعتقلين، وأمر ألا يشتغل أحد في أسبوع الآلام كأوامر الرسل، وأرسل هيلانة إلى بيت المقدس فاكتشفت الصليب المقدس. وفى السنة السابعة عشرة من ملكه اجتمع المجمع المسكوني الأول بنيقية في عام 325 م.  

 

  • يحسب له انه اقر مرسوم ميلان سنة 313م الذى ينص على حرية العبادة و لكن لم يجعل المسيحية ديانة الدولة

 

  • ذكر المؤرخ يوسابيوس انه دفع من موارده الخاصة هبات كثيرة لكنائس الله، لتوسيع هذه المباني المقدسة وتعليتها، وزخرفة هياكل الكنائس بتقدمات سخية" (كتاب 1: 42).

أظهر سخاء عجيبًا على الفقراء المسيحيين والوثنيين، خاصة الأسر المستترة. "كان قسطنطين عندما يخرج من قصره الملكي باكرًا جدًا في الفجر، ويشرق بنورٍ سماوي، يسطع بأشعة إحسانه على كل من تقدم إليه" (1: 43).

  • تمثال قسطنطين حاملا علامة الصليب:

إذ استقبلته روما بالهتافات على المستوى الرسمي والشعبي أمر بإقامة حربة عالية على شكل صليب تحت يد تمثال يمثل شخصه في أبرز مكان في روما، على أن تُنقش عليه العبارة التالية باللغة اللاتينية: "بفضل هذه العلامة المباركة، التي هي محك القوة الحقيقي، أُنقذت وحرّرت مدينتكم من نير البطش، وحرّرت كذلك مجلس الأعيان الروماني والشعب الروماني، وأعدتهم إلى مجدهم السابق ورفعتهم السالفة".

 

أمورا تحسب على قسطنطين :

  • كان محتفظا بلقبه الكاهن الأعظم ( Pontifex Maximus )بحسب المعتقدات الوثنية القديمة
  • كان قاسيا جدا حتى انه بعد ان دخل مدينة صور التي حاصرها زمانا طويلا ذبح معظم مواطنيها و باع من تبقى منهم كعبيد كعقابا لهم على مقاومته .
  • قام بقتل زوجته الثانية و احد أبنائه و ابن اخته بقسوة و لا نعرف السبب وراء ذلك.
  • كان يعرف عنه انه كان شريب خمر شره حتى ان 42 من جنوده ماتوا بتسمم الخمر في محاولاتهم لمجاراته في شرب الخمر
  • بعضا من تجاوزاته على المستوى الكنسى :

    • في عام 328 م احل اريوس بعد ان حرمه و عزله المجمع المسكونى بنيقية 325 م و هذه ليست من صلاحياته
    • فرض على القديس اثناسيوس الرسول قبول اريوس و اعوانه في الإسكندرية و لكن البابا اثناسيوس الرسول رد عليه قائلا بان "من حرمة مجمع مسكونى لا يحله الا مجمع مسكونى اخر" فاستبد الغضب بالامبراطور
    • كتب خطابا شديد اللهجة الى البابا اثناسيوس يهدده بالعزل و النفى اذا لم يقبل عودة من يرغبون في العودة للكنيسة من المعزولين
    • تلاعب به يوسابيوس اسقف نيقوميديا صديقه و الاريوسيين فاستصدروا أوامر نفى ملكية لكلا من بولس اسقف القسطنطينية و يوثتاسيوس اسقف انطاكية باتهامات باطلة
    • عندما سعى البابا اثناسيوس للتحدث معه في القسطنطينية تركه و انصرف على صهوة جوادهمن امامه
    • اصدر الملك قرارا بنفى البابا اثناسيوس الى مدينة تريف بجنوب فرنسا مما جعل البابا يقول له في جرأة شديدة " الرب يحكم بينى و بينك "
    • و هو على فراش الموت طلب ان يتمم سر المعمودية على يد الاسقف يوسابيوس النيقوميدى الاريوسى

 

السؤال هنا : هل كان قسطنطين حين اقدم على احتواء المسيحية و قبولها كان مخلصاً في عمله هذا؟ وهل أقدم عليه عن عقيدة دينية ، أو هل كان ذلك العمل حركة بارعة أملتها عليه حكمته السياسية؟

أكبر الظن أن الرأي الأخير هو الصواب. لقد إعتنقت أمه هيلانا الدين المسيحي حين طلقها قنسطنطيوس ؛ ولعلها أفضت إلى ولدها بفضائل المسيحية ، وما من شك في أنه تأثر بما ناله من انتصارات في المعارك الحربية التي خاض غمارها مستظلاً بلواء المسيح وصليبه. ولكن المتشكك وحده هو الذي يحتال هذا الاحتيال على استخدام مشاعر الإنسانية الدينية لنيل أغراضه الدنيوية. و خاصة انه كان قد اعجب بجودة نظام المسيحيين إذا قيسوا بغيرهم من سكان الإمبراطوريّة، وبمتانة أخلاقهم، وحسن سلوكهم، وبجمال الشعائر المسيحية وخلوها من القرابين الدموية ، وبطاعة المسيحيين لرؤسائهم الدينيين

ويقول صاحب كتاب تاريخ أغسطس Historia Augusta على لسانه: "إن الحظ وحده هو الذي يجعل الإنسان إمبراطوراً" - وإن كان قوله هذا تواضعاً منه لا اعتقاداً بسيطرة الظروف على مصائر الناس. وقد أحاط نفسه في بلاطه ببلاد مليئة بالعلماء والفلاسفة الوثنيين ؛ وكلما كان اعتناقه دينا جديدا يجعله يخضع لما تتطلبه العبادات المسيحية من شعائر وطقوس ، ويتضح من رسائله التي بعث بها إلى الأساقفة المسيحيين أنه لم يكن يعنى بالفروق اللاهوتية التي كانت تضطرب لها المسيحية كما سنرى في خطابه الموجه الى كلا من البابا الكسندروس و اريوس - مع أنه لم يكن يتردد في القضاء على الانشقاق الا من اجل المحافظة على وحدة الإمبراطورية.

فكانت المسيحية عنده وسيلة سياسية لا غاية.

جزأ من خطاب الملك قسطنطين الى البابا الكسندروس و اريوس معا :

"ويبدو لي أن سبب هذا الخلاف بينكما صغير تافه غير جدير بأن يثير هذا النزاع الشديد" و يقول " فأنت يا ألكسندر تريد أن تعرف رأي قساوتك في إحدى النقاط القانونية، في جزء من سؤال هو في حد ذاته عديم الأهمية؛ وأما أنت يا أريوس فقد كان الواجب عليك، إذا كانت لديك أفكار من هذا القبيل، أن تظل صامتاً. ولم يكن ثمة حاجة إلى إثارة هذه المسائل أمام الجماهير... لأنها مسائل لا يثيرها إلا مَن ليس لديهم عمل يشغلون به أنفسهم، ولا يرجى منها إلا أن تزيد عقول الناس حدة... تلك أعمال سخيفة بالأطفال العديمي التجربة لا برجال الدين أو العقلاء من الناس".

 

و ختاما فان من استحق لقب الكبير لم يكن الملك قسطنطين بل البابا اثناسيوس الرسولى

يقول فيليب شاف المؤرخ الكنسى (1819 – 1893) في كتابة تاريخ الكنيسة المسيحية الجزء الثالث صفحة 885 ما يلى " اثناسيوس هو المركز الذى كانت تدور حوله الكنيسة و التعليم اللاهوتى في العصر النيقاوى ، و لقد لقب بالكبير ، كما لقب الامبراطور قسطنطين نفسه الذى كان يعاصره ، و لكن الأول كان عن جدارة  - فكرا و اخلاقا – جدارة تمحصت بالاضطهاد و الالام التي تحملها على مدى السنين في مقاومة أخطاء فظيعة و مقاومة حكومة الامبراطور" و يقول أيضا " لقد تحمل لثناسيوس الاضطهاد لكنه لم يضطهد أحدا قط "

 

المراجع :

1 - موقع القديس تكلا هيمانوت الحبشى الاليكترونى للكنيسة القبطية الارثوذكسية

2 - كتاب حقبة مضيئة في تاريخ مصر - القديس اثناسيوس الرسولى البابا العشرون ( الاب متى المسكين )

3 - المجامع المسكونية في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – لنيافة الأنبا بيشوي

4 – الكنيسة تواجه الهراطقة للأستاذ أمير نصر

 

الى هنا اعاننى السيد المسيح

اذكرونى فى صلواتكم

اغنسطس اكليريكى / مينا ثروت قلادة